حوار الثقافات وأثره على الإبداع الموسيقى للمرأة المصرية

طباعة
حوار الثقافات وأثره على الإبداع الموسيقى للمرأة المصرية
د. رشا طموم

لاشك أن مجال التأليف الموسيقى الجاد من أكثر مجالات الإبداع الموسيقى للمرأة المصرية التى ارتبطت بحوار الثقافات وأنتجت حوارا مباشرا مع الغرب؛ فقد ظهرت المرأة المصرية المؤلفة مع ظهور حركة التأليف الموسيقى المصرى فى الثلاثينيات من القرن العشرين وتتابع تواجدها فى كل جيل من أجيال المؤلفين المصريين القوميين الذين وصلوا فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين إلى الجيل الرابع لتسهم بإنتاج ثرى كان له بصمة واضحة فى تراث التأليف الموسيقى المصرى الجاد. ومن أهم المؤلفات الموسيقيات المصريات: بهيجة رشيد (1899 ـ 1987) وبهيجة حافظ (1908ـ1983) من الجيل الأول، وعواطف عبد الكريم (1931) من الجيل الثانى، ومونا غنيم(1955) من الجيل الثالث، ونهلة مطر(1971) من الجيل الرابع.
 ويعتبر التأليف الموسيقى المعاصر مجالا شائكا بذل فيه المؤلفون (من الجنسين) مجهودا كبيرا فى خوض تجاربهم الإبداعية التى جمعوا فيها بين استخدام تقنيات التأليف الغربى العالمى وبين عناصر الموسيقى المصرية المحلية وواجهوا فيه صعابا لإثبات هويتهم ومكانتهم محليا وعالميا. وقد ظهر تأثير حوار الثقافات جليا على التجربة الإبداعية للمؤلفات المصريات حيث سافرت أغلبهن فى بعثات للدراسة بالخارج،  لذا فقد جاء إبداعهن نتاجا واضحا للحوار بين الثقافة الأم وثقافة البلد التى درسن فيها او اتصلن بها. ومع اختلاف تقنيات الحوار الثقافى فى تجربة كل منهن بتغير الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى مصر بل والعالم كله، تشابهن جميعا فى وجود رغبة حقيقية للتواصل مع الآخر انعكاسا لطبيعة شخصية المرأة العربية التى تمثل جسر التواصل بين أفراد أسرتها الصغيرة والكبيرة وتسعى دائما لجعل عالمها الإبداعى الخاص وسيلة للتفاهم الروحى مع من حولها.
ومن المفيد قبل أن نقدم قراءة للتجربة الإبداعية للمرأة المصرية فى الموسيقى، أن نستعرض ثلاث عوامل كان لها تأثير واضح على تشكيل هذه التجربة وهى: 1. دور المرأة المصرية فى الموسيقى من منظور النوع الإجتماعى وأثره على تجربة التأليف لديها.2. مقومات الثقافة الموسيقية الأم ومدى ارتباط المؤلف المصري بها 3. الأبعاد التاريخية للالتقاء بين الثقافة الموسيقية الغربية والشرقية فى مصر وتأثيرها على تشكيل المؤلف المصرى.
أولا: دور المرأة المصرية فى الموسيقى من منظور النوع الإجتماعى وأثره على تجربة التأليف:
لاشك أن النظرة الاجتماعية قد أثّرت بشكل كبير على دور المرأة المصرية فى مجال الموسيقى حيث حدد لها المجتمع أدوارا محبذة وأخرى مرفوضة تبعا لمعايير النوع الاجتماعىGender.  ومن ثم فقد أشارت نهلة مطر أنه "غالبا ما ترتبط كل تجربة موسيقية بافتراضات خاصة بالنوع الاجتماعى سواء افتراضات خاصة بالإبداع أو الأداء أو حتى الاستماع، فالمرأة من وجهة الثقافة الأبوية هى امتداد الرجل.. خلقت من ضلعه ليتجنب الوحدة، ويعتبر الغناء من أكثر طرق التسلية وتجنب الوحدة شيوعا؛ لذا فالمرأة المغنية شكل موسيقى مدعم اجتماعياً ومحبذ كموائمة لدورها الطبيعى فى الحياة كراعية وليس كمنافسة. وعندما ارتقت المرأة إلى درجة العزف على الآلات تجاوزت الحدود الطبيعية لها، ومع ذلك تبقى المرأة المؤلفة الخطر الحقيقى فى نظر المجتمعات الأبوية حيث أنها انتقلت باختيارها إلى المنطقة المذكرة (حيث ارتبط التفكير الإبداعى العقلانى بالرجال) وبالتالى ستفقد وظيفتها الطبيعية وتتساوى بالرجل".
وفى اتخاذ المرأة التأليف الموسيقى كمهنة خروجا من العالم الخاص إلى العالم العام: العالم الخاص الذى يرتبط بالعلاقات الشخصية بين الأفراد وتكون المرأة فيه مصدر الرعاية والحنان للأسرة حيث تدور كل اهتماماتها فى فلك أسرتها؛ وبالتالى فإن المهنة المناسبة لها مجتمعيا هى التى تمثل امتدادا لدورها الأسرى (كالتمريض والتدريس). أما العالم العام فهو العالم الخارجى الذى يهتم بعلاقات العمل والإدارة وشئون المجتمع يخرج فيه الفرد من بوتقة مجتمعه الداخلى إلى دائرة أوسع من العلاقات العامة التى تحكمها قوانين موضوعية بعيدا عن منظور المشاعر الذاتية. ومن هنا فإن الدور الاجتماعى المحبذ للمرأة فى المجتمع جعلها بمعزل عن هذا العالم العام، وبعملها الاحترافى فى مجال التأليف ستضطر إلى مواجهة الجمهور والتعامل مع الناشرين ومتعهدى الحفلات والعازفين وكلها خروجا عن القيود المجتمعية التى تعيشها.
ثانيا: مقومات الثقافة الموسيقية الأم ومدى ارتباط المبدع المصري بها.
    الموسيقى المصرية هى نتاج رافدين أساسيين: الأول، هو رافد الموسيقى الشعبية التى تتنوع فى مصر بتنوع البيئات الجغرافية المختلفة وينعكس ذلك على السمات الموسيقية التى تميز كل نوعية (موسيقى البدو ـ المناطق الساحلية ـ النوبة ـ موسيقى الفلاحين ـ موسيقى الصعيد). أما الرافد الثانى فهو تراث الموسيقى التقليدية الفنية والذى شكلته العديد من التأثيرات التركية والفارسية والأندلسية وارتبط بطبقة الحكام من الترك والأثرياء المتصلين بهم لذا فقد أطلق عليها موسيقى القصور.
    ويجتمع هذان الرافدان على سمة أساسية وهى اعتمادهما على التواتر الشفاهى وارتباطهما بذخر هائل من المقامات والإيقاعات الشرقية وإن كانت أكثر ثراءً فى حالة الموسيقى التقليدية. وفى كلتا الحالتين فالموسيقى المصرية مونوفونية ذات لحن مفرد تظهر فيه نوعية عفوية من تعدد التصويت الناتج من مغايرة الأداء أو ما يطلق عليه الهيتروفونية.
وقد ظهر تأثير الثقافة الوافدة بوضوح على المؤلف المصرى وخاصة عند جيل الرواد حيث اعتمد تعليمهم الموسيقى أساسا على دراسة قواعد ونظريات الموسيقى الغربية وتأثرهم بتراث الموسيقى العالمية. وقد تفاوت مستوى اتصال كل مبدع بالثقافة الموسيقية الأم حسب ظروف اتصاله بها ومدى تأثيرها على تكوينه الفنى. وإن كان هذا الاتصال لدى أغلب المؤلفين ليس من منطلق انغماس فى الموسيقى المصرية ( كما اتسمت تجربة سيد درويش) بقدر ما كان محاولة لإبراز هويته من خلال الاستعانة ببعض الألحان المحلية أو انعكاس المخزون السمعى اللاواعى للموسيقى المصرية من حوله على أعماله بحيث تضفى عليها سمة غير غربية حتى وإن كان الملمح الغربى هو السائد.
ثالثا: الأبعاد التاريخية للالتقاء بين الثقافة الموسيقية الغربية والشرقية فى مصر وتأثيرها على تشكيل المؤلفة المصرية.
لاشك أن الالتقاء الثقافى بين الغرب والشرق قد ساهم بشكل كبير فى تشكيل حركة التأليف الموسيقى فى مصر. فقد عاشت مصر فى انعزال ثقافى تحت مظلة الحكم العثمانى. وكانت الحملة الفرنسية (1798 ـ1891) هى أول مواجهة بين الغرب والشرق، ثم جاء حكم محمد على ليكون أول انفتاح ثقافى موسيقى حيث أنشأ مدرسة الموسيقات العسكرية وجلب الخبراء الإيطاليين والفرنسيين لتعليم المجندين المصريين عزف الآلات النحاسية وقراءة النوتة الموسيقية. واستمر هذا الانفتاح فى عهد الخديوى إسماعيل حيث بنى دار الأوبرا المصرية عام1871 ليحتفل بافتتاح قناة السويس فتكون مركزا فنيا للتعرف على الفنون الموسيقية الأوروبية وإن ارتبطت هذه الفنون بطبقة الأثرياء والساسة وظلت بمعزل عن فئات الشعب الأدنى.
وقد شكل هذا الالتقاء نوع من التزاوج الثقافى الذى تولدت عنه فنون جديدة تمثلت فى مجال الموسيقى فى نمو حركة التأليف الموسيقى المصرى والتى بدأت تؤتى ثمارها فى ثلاثينيات القرن العشرين مع جيل من الرواد الهواة هم (يوسف جريس وحسن رشيد وأبو بكر خيرت) وقد ظهرت فى إبداعاتهم عناصر هذا التزاوج بين الثقافة الوافدة والثقافة الأم وإن كان تأثرهم بالثقافة الوافدة أكثر وضوحا لارتباطها بالقواعد والنظريات التى تعلمها المؤلفون من أساتذة أجانب فى الغالب.
وقد حدثت نقلة هامة فى مسار الموسيقى بدأ بدخول مادة الموسيقى فى مناهج التعليم فى مصر تبعها إنشاء معهد معلمات الموسيقى عام 1935 ومعهد الموسيقى المسرحية عام1944 ثم الكونسيرفتوار عام1959 وكلها معاهد أوجدت نوعا من التعليم الموسيقى المنتظم، وإن اختلفت أهدافها فقد نتج عنها بداية عهد جديد فى التأليف الموسيقى حيث ارتبط المؤلفون بهذه المعاهد كدارسين ثم أساتذة.  وأصقلت هذه الدراسة موهبتهم وأتاحت لهم فرصة لاستكمال دراساتهم العليا فى الخارج. إلى أن توج ذلك بإنشاء قسم التأليف بالكونسيرفتوار عام 1971 الذى تخرج منه كثير من المؤلفين الموسيقيين المصريين من الجنسين وساهم فى تشكيل وعيهم بالهوية المصرية فى أعمالهم.
وبتطبيق العوامل الثلاثة على تجربة المرأة المصرية المؤلفة:
أولا: الجيل الأول (بهيجة رشيدـ بهيجة حافظ)
تشابهت ظروف البيئة الاجتماعية التى نشأت فيها كل من بهيجة رشيد وبهيجة حافظ حيث انتمت كلتاهما لطبقة أرستقراطية ثرية ومثقفة تهوى الموسيقى وترى فيها جزء أساسى فى التكوين الثقافى والاجتماعي لفتيات هذه الطبقة كنوع من الهواية المحببة وانعكاس للاتصال بالثقافة الغربية وامتداد للدور الاجتماعى للمرأة فى تأنيس الوحدة.  لذا فقد أتاحت لهما قدرا من التعليم الموسيقي على يد مدرسين أجانب يعيشون فى مصر وإن ارتبط هذا التعليم أساسا بقواعد الموسيقى الغربية وعزف الآلات الغربية ( بيانو ـ كمان ). وفى نفس الوقت فقد حقق تعليمهما العام فى المدارس الأجنبية نوعا من الازدواجية الثقافية بين الثقافة الغربية والثقافة الأم وخاصة فى الكلية الأمريكية للبنات التى التحقت بها بهيجة رشيد.  هدفت الكلية الأمريكية لتوسيع مدارك تلميذاتها نحو دور المرأة الفعال فى المجتمع بتجهيزهن للقيام بهذا الدور. وعلى الجانب الآخر فإن التعليم فى مدارس الفرانسيسكان والميردوديوه أتاح لبهيجة حافظ نوع من الانفتاح على الثقافة الغربية. وبالرغم من هذا فقد ظلت القيود الاجتماعية تحيط بكل منهما والتى فرضتها التقاليد المحافظة لأسرتيهما. فقد أتاحت الأسرة لهما التعليم الموسيقى والعام المتفتح إلا أن ذلك كان بهدف تجهيزهما للدورالإجتماعى الأساسى للمرأة كزوجة وأم. وقد اختلفت ردود أفعال كلتيهما حيث حققت بهيجة رشيد نوعا من الموائمة بينما كسرت بهيجة حافظ كل القيود وتحررت تماما منها.
استطاعت بهيجة رشيد أن تخلق عالما وسيطا بين العالم الخاص الذى يفرضه المجتمع والعام  الذى تفرضه مهنة التأليف؛ فقد كان التأليف الموسيقى بالنسبة لها امتدادا للنشاط الاجتماعى الذى مارسته باقتدار وتعبيرا عن شخصيتها الحانية والرقيقة.  وقد شجعها على ممارسة هوايتها واستكمال إبداعاتها زوجها وخاصة كونهما أعضاء فى الجمعية المصرية لهواة الموسيقى والتى كانت منفذا لتقديم أعمالهما وبالطبع فإن جمهور هذه الحفلات كان على قدر عالى من الثقافة العامة والموسيقية. وبالإضافة إلى ذلك فقد مكنتها قدرتها المادية على نشر كتبها الموسيقية دون الحاجة للاحتكاك بالعالم العام، وقد تمثلت أعمالها فى أغانى للأطفال لأحفادها ثم مجموعة من أغانى للشباب لأولادها وكلها من الأنماط المتوائمة مع القيود المجتمعية. واتسمت لغتها الموسيقية بالرقة والرومانتيكية الواضحة والتى عبرت عنها باستخدام مفردات موسيقية كلاسيكية بسيطة يمكن تذوقها فى أحد أغنياتها من مجموعة أغانى الشباب " حلم لم يفسر " نظم طلعة الرفاعى أداء تحية شمس الدين.
 أما حوارها مع الثقافة الموسيقية الغربية فقد تمثل فى طرقها لمجال جمع وتدوين الأغاني الشعبية التى كانت تسمعها من فتيات الريف في طفولتها في ضيعة الأسرة، وقد شعرت بقيمتها وكانت تخشى عليها من الضياع كما أرادت نشرها بين الطبقات المثقفة داخل مصر وخارجها كنوع من التواصل مع الثقافة الغربية ومحاولة للحفاظ على الهوية المصرية، لذلك دأبت على جمعها وتدوينها وتقديمها ضمن الحفلات التى كانت تقيمها فى الصالون الخاص بها وكذلك قدمت ترجمة لمعانى الكلمات وأضافت لها المنطوق اللفظى للكلمات العربية حتى يسهل أدائها للمؤدى الغربى. ولكنها خانها التوفيق حيث لم تبرز الأبعاد الخاصة للمقامات العربية ذات الأرباع والتى تميز قدرا كبيرا من الموسيقى الشعبية المصرية فقد كان هدفها من نشرها كما قالت ـ أن تقدم تلك الأغاني من خلال آلة البيانو لأن الآلات التي تقدم أرباع الأصوات ليست متاحة للجميع وخاصة فى الخارج، وقد نوهت بهيجة رشيد فى مقدمة كتابها (أغانٍ مصرية شعبية) إلى أن هذا الجمع ليس بالدراسة العلمية فى مجال جمع الموسيقى الشعبية "بل هو عمل مدفوع بحب عميق للريف ولذكريات الطفولة وتقدير لقيمة الأغانى الشعبية المصرية". وقد تداركت بهيجة هذا الخطأ فى كتبها التالية ومنها " 80 أغنية من وادى النيل " حيث نوهت عن المقام الأصلى للأغنية.
 ويلاحظ فى تجربة بهيجة رشيد أنه بالرغم من تقديرها لقيمة التراث الشعبى فلم ينعكس هذا التراث على أعمالها الموسيقية بل تعاملت معه بنفس فلسفتها فى الخدمة الاجتماعية.
أما بهيجة حافظ فقد كسرت بتجربتها كل القيود والحدود الطبيعية ساعدها فى ذلك سفرها لباريس لدراسة الموسيقى الذى قوّى عزيمتها للخروج من عالمها الخاص واتخاذ التأليف الموسيقى كمهنة حيث نشرت لها كثير من شركات الأسطوانات بعض مؤلفاتها. وقد اضطرت عند طرقها لمجال التمثيل والإنتاج بجانب التأليف إلى التخلى عن أسرتها والاعتماد الكامل على نفسها وبالتالى انتقلت إلى العالم العام بكل مقوماته ( مواجهة للجمهور ـ التنافس مع الشركات الأخرى الخ ). وبالرغم من أهمية دور بهيجة حافظ كأول مؤلفة موسيقية محترفة إلا أنه لا توجد معلومات كافية عن طبيعة مؤلفاتها كما لا توجد أية تسجيلات لهذه المؤلفات.
والمعلومات المتوافرة عن حوارها مع الثقافة الغربية أنها كانت أول مصرية تُقبل عضواً في جمعية المؤلفين بباريس، وتحصل علي حق الأداء العلني لمؤلفاتها الموسيقية. فى الفترة الزمنية التى لم يكن فيها من السهل على المرأة أن يتم الاعتراف بها وبالتالى نجحت فى إثبات ذاتها.
 ثانيا: الجيل الثانى (عواطف عبد الكريم)
تغيرت الظروف الاجتماعية والسياسية فى مصر التى واكبت هذا الجيل فقد برزت آثار الحركة النسوية فى مصر وأصبح من المعتاد أن تلقى المرأة تعليما لا يقف عند حد التعليم المدرسى بل يتخطاه للتعليم الجامعى بل واستكمال الدراسات العليا. وكان لإنشاء المعهد العالى للمعلمات أثرا واضحا على وجود مؤسسة تعليمية يمكن للمرأة أن تدرس خلالها الموسيقى بشكل أكاديمى وتشبع رغبتها الإبداعية.
 وبالنسبة لتجربة عواطف عبد الكريم فقد انتمت لأسرة مثقفة ولأب يعى أهمية التعليم بالنسبة للمرأة بل ساعدها على استكمال دراساتها العليا بالخارج بوضعه كشرط أساسى لقبول زواجها من الفنان التشكيلى عبد الفتاح البيلى. وبذا فقد ساعدت هذه البيئة الأسرية المتفهمة فى تسهيل تجربة الإبداع التى بدأت محاولاتها المبكرة أثناء دراستها بالمعهد بتشجيـع من أستاذها للفيولينة أحمد عبيد.
وبالرغم من وجود كثير من الأساتذة الأجانب الذين شاركوا فى تدريس المواد الموسيقية فى المعهد فقد بدأت تجربة الحوار الثقافى مع الآخر عند عواطف عبد الكريم أثناء دراستها فى النمسا وإن لم تتسم بالحوار بقدر ما هى نوع من المواجهة مع بعض أساتذتها ليست لكونها إمرأة فقط بل لكونها طالبة مصرية وافدة من بلد يظن أن الموسيقى فيها ليست على قدر من الأهمية لذا فقد ثابرت لإثبات ذاتها فى ظل هذا المجتمع الأوروبى وكانت لغتها الموسيقية التى استخدمتها هى اللغة الأوروبية السائدة والتى وجهها إليها أساتذتها فى هذا المعهد العريق وإن ظهر فى إعمالها تحررا إيقاعيا استمدته من المخزون السمعى اللاواعى من الثقافة المصرية الأم. وبالفعل نجحت عواطف عبد الكريم فى إثبات ذاتها وفى عام 1962 حصلت على جائزة تفوق من الدولة النمساوية لحصولها على دبلوم النضوج الفنى بامتياز وبإجماع آراء الأساتذة فى لجنة الامتحانات النهائية.
أما تجربة الحوار والتواصل مع الثقافة الغربية فقد حققتها عواطف عبد الكريم بعد عودتها من البعثة عندما طرقت مجال تأليف وإعداد الموسيقى التصويرية للمسرحيات العالمية المترجمة وحاولت أن تحقق نوعا من التواصل مع هذا التراث الوافد بالتعامل مع موسيقى المسرحيات من منطلق فنى جاد وليس استهلاكى أو ترفيهى حيث تقوم بدراسة اللحظة الدرامية ومتطلباتها ومحاولة وضع المعادل الموسيقى لها مستعينة بلغة موسيقية غربية مع بعض عناصر اللغة الموسيقية الشرقية. وقد استطاعت عواطف عبد الكريم أن تخرج من العالم الخاص للمرأة إلى عالم المسرح وهو مجال تكون المواجهة فيه مباشرة مع الجمهور ويتطلب تفاعلا مع مبدعين من فنون أخرى ويحتاج لقدر من الجرأة والصنعة العالية وخاصة وقد واكب دخولها هذا المجال ازدهار للعروض الجادة لمسارح الدولة. وبالفعل فقد قوبلت أعمالها بفضول من المتلقين واستغراب للاستماع لموسيقى هذه السيدة استطاعت أن تحقق نجاحا ملحوظا وخاصة من خلال واحدة من أوائل وأهم أعمالها وهى موسيقى مدينة الأحلام لمسرح العرائس ومن أهمها الإنسان الطيب لبريخت. وبالرغم من النجاح الذى حققته فى هذا المجال فهذا لم يمنع من بعض المناوشات التى واجهتها من قبل الملحنين الرجال الذين لم يتقبلوا وجود امرأة وخاصة بلغة موسيقية فنية تختلف بوضوح عما يقدمونه.
وقد استمر تواصل عواطف عبد الكريم مع الثقافة الغربية من خلال عضويتها للمجلس الدولى للموسيقى ومشاركتها كعضو فى لجان تحكيم مسابقة تأليف عالمية (بوكى) فى روما وكلها أنشطة استطاعت أن تشارك ليست من منطلق الثقافة المستضعفة بل بقدرة على التواصل المتكافئ بين الثقافتين.
الجيل الثالث والرابع ( مونا غنيم ونهلة مطر)
قد بكون الجيل الثالث والرابع أكثر حظا من سابقيهما فى توفر مؤسسات التعليم الموسيقى المتخصصة وفى تغير نظرة المجتمع نحو ضرورة تعليم المرأة والتى كانت بالفعل قد وصلت إلى مستويات رفيعة وحققت نجاحات كبيرة أفرز جيلا رائدا من السيدات المبدعات فى شتى الفنون تحتذى بهن الأجيال التالية. وقد كان لإنشاء قسم التأليف فى معهد الكونسيرفاتوار ـ وتبعه قسم النظريات والتأليف فى كلية التربية الموسيقية ـ عظيم الأثر على الجيل الثالث والرابع من المؤلفين المصريين حيث تخرج كثير من المؤلفين القوميين الذين وجدوا فى مدرسة جمال عبد الرحيم موجها لأهمية إبراز الهوية المصرية مع استخدام تقنيات التأليف الغربى الحديث.
وبالرغم من هذه الظروف المواتية فقد ظهر على الساحة العالمية كثير من الصراعات السياسية والاجتماعية أوجدت تحديات ثقافية وخاصة المرتبطة بمفهوم العولمة وقضايا الهوية الثقافية فى الثقافات المستضعفة وهو ما اصطرع المؤلف الموسيقى فى محاولة لمواجهة هذه التحديات.
 وكما كان الحال فى الجيل الأول فقد اختلفت تجربة مونا غنيم عن نهلة مطر ليس فقط لاختلاف الفترة الزمنية ولكن أيضا لاختلاف الظروف التى واكبت دخولهما مجال التأليف الموسيقى. فقد استفادت مونا غنيم من دراستها للتأليف فى الكونسيرفاتوار حيث أتاحت لها التمكن من تقنيات صنعة التأليف الغربى، وفى نفس الوقت التعرف على الحلول التى أوجدها جمال عبد الرحيم لإبراز الهوية المصرية فى أعماله من استخدام للألحان المصرية وتناول المقامات والإيقاعات الشرقية وبذلك كان حوارها الثقافى أثناء البعثة من منطلق أبعد حيث كانت أكثر وعيا بالتجارب الفنية التى سبقتها وبأهمية تمسكها بهويتها فى مواجهة تكنيك الثقافة الغربية المهيمنة. وقد ساعدها على ذلك مقومات شخصيتها المرهفة التى مكنتها من تشرب مفردات التزاوج الثقافى فى تكوينها الفنى، لتفرزأسلوبا موسيقيا خاصا أصيلا انصهرت فيه عناصر اللغتين دون إقحام أو استخدام للحداثة بدون مبرر بشكل ميزها عن باقى المؤلفين المصريين القوميين. نستطيع أن نستشعر ذلك فى تذوق اللمسات المقامية المنتشرة فى أعمالها ولكن فى جو كروماتى يضفى حيوية ورهافة على العمل.
وبعد عودتها من البعثة استطاعت مونا غنيم أن تتواصل مع الثقافة الغربية حيث عرضت أعمالها الموسيقية فى كثير من المدن الأوروبية( برلين، بون، براغ، فيينا، روما). كما شاركت كعضو فى جمعية المرأة والموسيقىDonna e Musica  وهى أول جمعية موسيقية للمؤلفات الموسيقيات فى حوض البحر المتوسط لها نشاط واسع فى هذا المجال ومنه تدعيم وتوثيق أعمال المؤلفات العرب.
أما التجربة الإبداعية عند نهلة مطر فقد تميزت بخصوصية شديدة حيث انتمت لأسرة متوسطة لها أصول ريفية تبنت نفس معايير النوع الاجتماعى السائد. تملكت نهلة منذ طفولتها مقومات الشخصية الثائرة.. الحيوية.. الناقدة.. المتطلعة، وهو ما جعلها تثور على هذه المعايير وتجعل من تجربتها الإبداعية محاولة للإجابة على كثير من التساؤلات والتعبير عن أفكارها وآرائها الخاصة. وقد اختلفت تجربة التأليف الموسيقى عند نهلة مطر من جانبين: الجانب الأول: أنها اعتمدت فى البداية على التعليم الذاتى حيث لم تبدأ دراسة التأليف فى الكلية إلا بعد تخرجها واكتفت بمحاولاتها المبكرة فى تشكيل ذاتى للتجربة الإبداعية نتاج ما تشربته من دراسة المواد الموسيقية العربية والغربية (من نظريات وهارمونى وكونترابنط وتحليل موسيقي..الخ)، وما شكلته من خبرة الاستماع والإطلاع على التجارب الفنية حولها أى أنها لم تتأثر بمدرسة مصرية فى التأليف بعينها وخاصة مدرسة جمال عبد الرحيم. أما الجانب الثانى: أنها لم تطرق مجال التأليف لتحقيق خبرة موسيقية بحتة قوامها التأثر بالثقافة الغربية أو الشرقية بل جعلت من أفكارها الموسيقية وسيلة للإجابة عن تساؤلاتها والتعبير عن ذاتها والتواصل مع الآخرين وفى كل ذلك فإن الموسيقى قد تكون أكثر نجاحا ورمزية وتجريدية فيما قد يحده التعبير اللغوى أو التشكيلى. وقد ساعدها على ذلك قراءتها النهمة فى مجالات متعددة شملت الأدب والتاريخ والفلسفة والنظريات المعرفية الحديثة والدراسات اللغوية التى كونت لديها حساسية لاستشعار الطاقة الكامنة فى المفردات الموسيقية وكيفية استغلالها بشكل أكثر فاعلية. 
وهناك كثير من المواقف التى كان لها تأثير فى تشكيل الخبرة الإبداعية لدى نهلة مطر؛ ففى عام 1988عند حضورها المهرجان الأول للمسرح التجريبى أدركت أهمية الطقس الفنى فى استقبال الجمهور للعمل التجريبى، ولذلك فقد أولت اهتماما بهذا الجانب الطقسى فى تفهمها للتراث الموسيقى المصرى والمرتبط بتقاليد الموسيقى الصوفية مثلا من موالد وحلقات ذكر. انعكس ذلك على اهتمامها بالجانب الحسى للأداء الذى يبرز الطاقة الانفعالية لأعمالها الموسيقية. وفى عام 1995 كان لقاءها بأستاذ التأليف النمساوى ديتر كاوفمان من نقاط التحول الهامة فى تجربتها الإبداعية والذى وجهها للاهتمام بالمعمار الموسيقى لأفكارها بحيث لا يقتصر اهتمامها بتشكيل الفكرة الموسيقية على حساب البناء الموسيقي المتكامل لهذه الفكرة داخل العمل.
وقد ظهر تأثير كل هذه الظروف والمواقف السابقة على تجربة الحوار الثقافى فى إبداعات نهلة مطر والذى وإن بدأ نظريا فى قراءاتها لتراث الفكر الغربى بشكل تحاورت فيه مع أفكار كاتبيه، فقد تشكلت التجربة العملية لهذا الحوار أثناء بعثتها الدراسية بالولايات المتحدة الأمريكية حيث فجّر الالتقاء المباشر بالحضارة الغربية موضوعات خاصة بالنوع الاجتماعى وقضايا الهوية الثقافية.  فجاءت مؤلفاتها الموسيقية انعكاسا لآرائها فى هذه الموضوعات ومحاولة للتواصل مع الآخر. حملت أغلب أعمالها مضامين فلسفية ونفسية ظهرت بوادرها فى كثير من أعمالها التى ألفتها فى بداية البعثة، ووصلت إلى ذروتها فى رسالة الدكتوراه التى عرضت فيه اقتراحا للتحليل العمل الموسيقى من منظور انفعالى تتحكم فيه تأويلات ثقافية اجتماعية للمدلول الموسيقي وقدمت فيه عملها الدرامى المركب " علامات Scars" وهو نوع من السيرة الذاتية تناولت فيه تجربتها فى العبور الثقافى cross-culture وتشكيل الذات بالخروج من شرنقة الخوف من الآخر والتحرر من قيود الثقافة الأم.  حاولت نهلة مطر فى هذا العمل التعبير عن الصوت الداخلى لديها باستخدام أصوات البيئة المحيطة بشكل تنوع فيه استخدام الموسيقى الحية والموسيقى الإلكترونية وما تبعها من استخدام أصوات حية مسجلة ومعدلة مصاحبة بمشاهد فيديو وكلها وسائل لتوصيل رسالتها الثقافية.
لقد كانت مقومات الحوار مع الثقافة الغربية فى تجربة نهلة مطر الإبداعية هو الصدق فى التعبير عن الذات والجرأة فى تناول قضايا ثقافية شائكة ( بالنسبة للثقافة الأم) وفى نفس القوة فى مواجهة الآخر بحلول فنية مبتكرة وغير تقليدية وهو ما كان له رد فعل واضح فى عملية التواصل التى حظت بقدر من الاستغراب فى البداية (من قدرة مرأة عربية على المواجهة بقوة) ثم الاحترام والتقدير من الأساتذة والزملاء الرجال. وفى نفس الوقت جاءت ردود أفعال السيدات الأمريكيات مختلفة حيث وجدن فى تجربتها تشابها أساسيا فى وضع المرأة فى ثقافتهن وبالتالى فقد تواصلن بشدة مع هذا العمل.


وختاما بعد هذه القراءة لتجربة المرأة المصرية فى الإبداع الموسيقى يمكن استقراء عناصر التشابه فى تجربتهن التى تتضح فى سعى المرأة الدائم لإثبات ذاتها وفى نفس الوقت رغبتها فى التواصل مع الآخر والتى تلجأ فيها لاستخدام وسائل مبتكرة تعكس إرادة حقيقية ورغبة دءوبة على تحقيق النجاح.
إلا أنه وبالرغم من زوال كثير من المعوقات التى واجهت المرأة المصرية المؤلفة فى بداية القرن العشرين فإنه مع الأسف لم تفرز الأجيال الشابة الحالية نماذج جديدة للمرأة المبدعة وأصبحت أقسام التأليف خالية من دارسات فى هذا المجال وهو ما يحتاج لدعم قومى فى تشجيع الشابات على الإبداع واكتشاف المواهب الفنية الواعدة وتوجيهها بشكل مناسب. ومحاولة تدعيم المرأة لتخطى حواجز النوع الاجتماعى فى ثقافتنا.
 كما يحتاج تفعيل الحوار الثقافى للمرأة العربية مع الثقافة الغربية إلى خلق نوع من الدعم العربى للتعريف بالمبدعات العربيات ومساعدتهن على نشر أعمالهن ورسالتهن الثقافية. ومن المؤكد أن هذا الدعم من الثقافة الأم سيساعد على تشجيع حالة من الحوار الحقيقى مع الثقافة الغربية ليس من منطلق أننا ثقافة مستضعفة ولكن من منطلق إيمانى بمقومات الحضارة العريقة التى ننتمى إليها والتى تمكننا أن نتواصل مع الآخر بشكل أقوى.
المراجع:
1.    Awatef Abdel Karim” Ghonein, Mauna” art. In The New Grove Dictionary of Music and Musicians. Editor Stanley Sadie and John Tyrrell.  2nd ed.  Vol. 25. New York: Oxford University Press, 2001.
2.    سمحة الخولى. القومية فى موسيقا القرن العشرين، الكويت: عالم المعرفة، العدد 162، 1992.
3.    ـــــــ. التأليف الموسيقى المصرى المعاصر، الجزء الأول، القاهرة: وحدة بريزم بالعلاقات الثقافية الخارجية، 1997.
4.    Mervat Hatem: "Toward the Study of the Psychodynamics of Mothering and Gender in Egyptian Families  " art. In the International Journal of te Middle East Studies, 19:3,  1987.
5.    نهلة مطر. "تأملات المرأة والتأليف الموسيقى وتشكيل الذات المصرية" عواطف عبد الكريم مسيرة من الحب والعطاء، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2007.
تم التحديث فى ( الأربعاء, 18 أبريل 2012 08:25 )